عدت مؤخراً إلى الإمارات بعد زيارة قمت بها إلى الولايات المتحدة، حيث تلقيت دعوة لإلقاء كلمة أمام قادة مشاركين في المؤتمر السنوي الـ 27 لصنّاع السياسات العرب-الأميركيين في العاصمة واشنطن. لم تكن المناسبة مجرد فرصة لعرض وجهة نظري حول السياسة الأميركية في العالم، فقد تبادلت الحديث أيضاً مع صنّاع قرارات ووجوه من مختلف مشارب الحياة، ما ساهم في تنويري على المستوى الشخصي وأتاح لي الاطلاع على أفكار وآراء متنوّعة. كانت الأجواء إيجابية عموماً. لمست عن كثب تجدّد الحماسة والنبض الإيجابي. وكانت مفاجأة سارة لي. لسوء الحظ، لا تغطّي وسائل الإعلام مختلف الأمور الجيدة التي تحدث وتعود بالفائدة على الأميركيين، بل تفضّل أن تخصّص هواء أثيرها وأعمدة صفحاتها لانتقاد الحلول غير التقليدية التي يلجأ إليها الرئيس الأميركي لمعالجة المشكلات، ويضعون كل كلمة يتفوّه بها تحت المجهر أو يسعون إلى نبش الماضي وإخراج القذارة منه.
في أغسطس 2015، عبّرت عن آرائي في مقال بعنوان «ترامب، نسمة هواء منعشة وسط الزمرة المعتادة». وبعد فوز ترامب في الانتخابات، ناشدت الأميركيين عدم استعجال الحكم على الأمور في مقال بعنوان «الرئيس المنتخب ترامب يستحق فرصة». وكتبت آنذاك: «ينبغي على أميركا أن تجري مراجعة ضمير لتحديد الأسباب التي أدّت إلى تفوّق مرشح من خارج التركيبة السياسية على شخصية سياسية متمرّسة في رصيدها عقوداً من الخبرة. واقع الحال هو أن المنظومة خذلت الملايين من الأميركيين المكافحين الذين رفضوا في الثامن من نوفمبر الوضع القائم...».
لكنني ومع ذلك لم أدعم الرئيس ترامب بشكلٍ أعمى. فأنا أوجّه انتقادات شديدة لبعض قراراته في السياسة الخارجية، لا سيما الحظر المثير للجدل الذي فرضه على المسلمين، وتسليمه القدس أحادياً إلى إسرائيل لتصبح عاصمة لها – في خطوة مضللة أحدثت شرخاً عميقاً بين الإسرائيليين والعرب، ولقيت معارضة من عدد كبير من اليهود الأميركيين.
مما لا شك فيه أن ترامب لا يحظى بشعبية لدى عدد كبير من قادة العالم بسبب سياساته المفتوحة والعلنية القائمة على مبدأ «أميركا أولاً». تُحرّكه مشاعر وطنية قوية، وهو من المؤمنين بأن السخاء الأميركي تعرّض للاستغلال الشديد، وجرى التعامل معه وكأنه أمر مسلّم به.
إنه شديد الشفافية. يتكلم بصراحة. وكان صادقاً في تعامله مع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوروبا، مشيراً إلى أن أميركا لن تستمر في حماية أوروبا مجاناً. لا ضير في حماية أموال دافعي الضرائب الأميركيين في الوقت الذي يواجه عددٌ كبير من الأميركيين صعوبة في تأمين معيشتهم. وقد أُدينَ أيضاً على نطاق واسع بسبب موقفه المتشدد من الهجرة غير الشرعية.
أتعاطف مع الفقراء، والعائلات البائسة التي تتجه نحو الحدود الجنوبية لأميركا أملاً بالدخول إلى الولايات المتحدة والحصول على اللجوء. لا أحد يريد أن يكون مكانهم، إنما لا تستطيع أي دولة أن تسمح بدخول قوافل تضم الآلاف عبر حدودها من دون التدقيق فيهم. إنه محق في حظر دخول المهاجرين غير الشرعيين، مع إعطاء الأولوية للمهاجرين الذين يتقيدون بالقوانين والتنظيمات. يجب مساعدة بلدان أميركا الجنوبية التي تتخبط في المشكلات الاقتصادية وترزح تحت وطأة عنف العصابات، من أجل توليد أجواء من الازدهار والأمان.
والرغبة التي أعلن عنها ترامب بمنع حصول الأطفال المولودين من أبوَين غير أميركيين على الأراضي الأميركية، على الجنسية الأميركية تلقائياً، هي خطوة إضافية لحماية الأميركيين. في حالات كثيرة، تسافر النساء الحوامل إلى الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة من الحمل بغية الحصول على جواز سفر أميركي للمولود الجديد ولاحقاً لجميع أفراد العائلة. ربما يعترض العالم على مواقف ترامب من مسائل كثيرة، لكن كل ما يفعله مناسب لأميركا، وهو لا يخفي ذلك بل يجاهر به. بالطبع، ارتكب أخطاء. فعلى سبيل المثال، قد يرتد فرض الرسوم الجمركية التجارية بنتائج عكسية. كما أن استعداء بعض الحلفاء التاريخيين لأميركا قد يدفع بهم إلى الارتماء في أحضان روسيا والصين. هو أبعد ما يكون عن الكمال، لكن الإجراءات التي اتخذها حتى الآن عادت بمنافع مهمة على الأميركيين.
يأتي على رأس أولوياته تأمين فرص في قطاع الأعمال، وخلق فرص عمل، وتعزيز البورصة. فيما أخط هذه السطور، يشهد الاقتصاد الأميركي طفرة لم يعرف لها مثيلاً من قبل. فقد سجّلت الأسواق أرقاماً قياسية جديدة. وثقة المستهلكين قوية. وتحقق الشركات زيادة في أرباحها. البطالة منخفضة مع نسبة 3.7 في المئة فقط. الشهر الماضي وحده، استُحدِثت 250000 وظيفة جديدة. وساهمت الزيادات في الرواتب وتخفيضات الضرائب في ارتفاع الدخل القابل للتصرف. يعود الاقتصاد الأميركي السليم والمعافى بالفائدة على العالم بأسره، لأنه عندما تعطس واشنطن يصاب العالم بالزكام، وخير دليل على ذلك ما حدث خلال الأزمة المالية عام 2008.
اليوم، أنصح الأميركيين من جديد، وبكل احترام، بأن يُقدّموا كامل الدعم للقائد الأعلى. تتجلى الانقسامات السياسية بقوة داخل البلاد. يتعين على وسائل الإعلام أن تخفف من حدّة هجماتها المتواصلة التي لا بد من أنها تشتّت انتباه الرئيس عن المسائل المهمة، وتضعه في موقف دفاعي.
وعلى الكونجرس أن يتحلى بالحكمة ويمتنع عن التورط في الصراع الحزبي الذي يقود على الأرجح إلى طريق مسدود بعدما بات «الديموقراطيون» يسيطرون على مجلس النواب. ينبغي على المشترعين، سواءً كانوا «ديموقراطيين» أو «جمهوريين» أو مستقلين، أن يتعاونوا ويتفاوضوا من أجل التوصل إلى تسويات بما يصب في مصلحة الدولة وشعبها. لن تُهزَم أميركا أبداً على أيدي عناصر خارجيين، لكن إذا خرجت الكراهية الداخلية عن السيطرة، فثمة خطرٌ بأن تنفجر من الداخل.
الرئيس ليس ديكتاتوراً. لقد اختاره الشعب. الولايات المتحدة دولة ديمقراطية تمتلك ضوابط وتوازنات تتجسّد من خلال الكونجرس والسلطة القضائية. إذا كانت غالبية الناخبين غير راضية بعد عامَين من الآن، يمكنها أن تعبّر عن رأيها في صناديق الاقتراع. في الانتظار، دعوه ينجز عمله بسلام. فالانتقادات المستمرة للبيت الأبيض لن تؤدّي سوى إلى تحقيق مآرب شخصية ضيّقة.
ينبغي على قادة العالم أن يتقبّلوا هذا الواقع الترامبي الجديد. لم تعد أميركا مستعدة كي تكون عكّازاً مالياً عالمياً. إنه بمثابة نداء يقظة لعدد كبير من الدول كي تهتم بشؤونها الخاصة بغية الاتكال على نفسها، وهو هدف جيد. يلوح في الأفق حلف عربي على طريقة «الناتو». ويدعو قادة الاتحاد الأوروبي إلى تشكيل جيش أوروبي.
كان الأميركيون يعرفون مَن هو ترامب قبل انتخابه. فهو لا يتورّع عن المجاهرة علناً بمواقفه. عملية صنع القرارات هي عملية حازمة لا تردُّد فيها. لقد كشفت الطريقة التي تعاطى بها مع الأزمة النووية في كوريا الشمالية، عن شجاعة حقيقية لديه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موقفه ضد العدوان الإيراني، على الرغم من الاعتراضات من أوروبا وروسيا والصين والأمم المتحدة.
هو يفعل ما يعتبره صحيحاً لأميركا في وجه الاحتجاجات الحاشدة، مظهراً شجاعة لم تتوافر لدى بعض الأشخاص الذين تسلّموا سدة الرئاسة قبله. سواءً كنتم تحبونه أم لا، هو من وجهة نظري يستحق فرصة. كفى مضيعةً للوقت على الأمور الصغيرة! الأساس هو أن يفي بوعوده، فهذا هو المهم.